أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقبل به العبد على مولاه وأن منبع التقوى كتاب الله جل وعلا فتزودوا منه فإن خير الزاد التقوى .
لننظر - أيها الاخوة - في هذه الوقفة الوجيزة عن صلتنا وواقعنا مع كتاب ربنا في هذه الأوقات .
لننظر ما خاطبنا الله -عز وجل - به وما أمرنا به وكيف حالنا مع كتاب ربنا ، وإنها لفرصةٌ أن نتذاكر هذه المعاني في هذه الأوقات الفاضلة في شهر رمضان ، شهر القرآن لنؤكد هذه المعاني في واقع حياتنا العملية ، علَّها أن تكون عوناً لنا على أن نثبت عليها وأن نمضي في إثرها لا نرجع عنها ولا نتوقف فيها بإذن الله عزوجل .
هذا الأمر القرآني الرباني للرسول الكريم ولأمته من بعده { وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن } أول أمرٍ تلاوة هذا القرآن، وقد يقول بعض الناس إنهم لا يحسنون التلاوة فنقول إن الله -جل وعل-ا قال : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر } ثم ما عليك - يا أخي - ألست تُفرِّغ جزءً من وقتك لعملك الذي تكسب به رزقك ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأهلك لتقضي حوائجهم ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأصحابك لتزورهم وتأنس بهم ؟ ألست تفرِّغ جزءً من وقتك لأشياء وأشياء وأشياء كثيرة ؟! أفتفريغ الوقت لتلاوة القرآن الكريم ولتعلمه يكون أهون عليك من كل هذه الأمور العارضة ؟ استمع إلى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه عقبة ابن عامر يقول فيه:جاء إلينا النبي – صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفَّة - أهل الصفَّة الذين كانوا يلازمون مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- وكانوا من الفقراء - فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم الغنى ، وأن يدلهم على طريق الغنائم ، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( أيكم يحب أن يغدوا كل يومٍ إلى بُطحان - وهو واديٍ في طرف المدينة - أو العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين من غير إثمٍ ولا قطيعة رحم ) .
أيكم يحب أن يذهب مسافة قصيرة ويأخذ ناقتين سمينتين عظيمتين من غير إثم ؟ فلا هو سارق ولا قطيعة رحم . ليست لغيره ولا شيء وكانت الإبل هي رأس مال العرب مَن كانت تقدَّر ثرواتهم بعدد ما يملكون من الإبل، وهؤلاء فقراء ( أيكم يحب أن يغدوا إلى بُطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين من غير إثمٍ ولا قطيعة رحم ) قالوا : كلنا يحب ذلك يا رسول الله - من لا يحب هذا الثواب وهذه الغنائم - قال : ( فلأن يغدوا أحدكم إلى المسجد كل يومٍ فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين كوماوين وثلاثٌ خيرٌ من ثلاث وأربعٌ خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل ) . انظر إلى هذا فكيف تضيع هذا الأجر وتفوِّت تحقيق الأمر الذي أُمرت به كما أُمر به النبي – صلى الله عليه وسلم- وهو أمر تلاوة القرآن . هل تلقى في ذلك مشقَّة ؟هل تجد فيه صعوبة ؟ خذ بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة في الصحيح ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به - أي متقنٌ له - مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) .
فأنت في غنيمة هنا أو هناك كيفما كان الحال، فينبغي أن تحرص على أن تؤدي هذا الأمر وهو أمر الصلة بكتاب الله عز وجل بتلاوة القرآن . واستمع الى الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن النــبي – صلى الله عليه وسلم- : ( من قرأ القرآن فله بكل حرفٍ يقرأه حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألفٌ حرف ولامٌ حرف وميم حرف ) فأي آيةٍ تقرأها فعدَّ ما فيها من الحروف واحسب الحسنات وضاعفها إلى العشرات بل لا تحسب شياً فإن الله -عز وجل - يعطي عطاءً عظيماً.
والأمر الثاني يقول الله - جل وعلا – { وهذا كتاب أنزلنه مباركٌ ليدَّبَّروا آياته وليتذكَّر أولـوا الألبـاب } فما نزل هذا القرآن لنهذَّ به هذَّاء الشعر ، كما قال ابن مسعود في صحيح مسلم : " لا تهذُّوا القرآن هذَّاء كهذِّ الشعر، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة " كما قد نفعل اليوم فنقرأ حتى تختلط الحروف ونسرع حتى ننتهي في أقلِّ وقت، كلا ! بل لا بدَّ أن يكون لنا حظٌ من التدبُّر فإن الله - جل وعلا - أنزل هذا الكتاب للتدبُّر ونعى على من لا يتدبَّرُ فيه فقال جل وعلا : { أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها } { أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا } وبعد التدبُّر - الذي هو التفَّهم وإدراك المعاني ومعرفة الأحكام والوقوف على الآداب - يأتي الأمر الأهم وهو العمل بهذا القرآن ، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود في سننه : ( من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والده تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيهم ) فما ظنُّكم بالذي عمل بهذا ! .
وأهل الله هم أهل القرآن الذي كانوا يعملون به في الدنيا كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- فإنما جاء هذا القرآن ليُطبَّق ولينفَّذ في واقع الحياة ، وكانت عائشة قد أوجزت إيجازاً بليغاً عظيماً عندما قالت عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : "كان خلقه القرآن " كنت ترى القرآن في حياته كلها بألفاظه، وكلماته ، وأفعاله ، وجهاده ، ومعاملته لأهله ، وفي كل شيءٍ من الشؤون.
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنون عاملون بكتاب الله سبحانه وتعالى ومَن كان على هذا فإنه بإذن الله -عز وجل - ينال الطمأنينة والسكينة واللذَّة والسعادة في هذه الحياة الدنيا، فيشرق قلبه بأنوار الإيمان، ويشيع في نفسه أثر القرآن ، وهكذا ينال هذه السكينة في هذه الحياة الدنيا ، ثم يكون مآله يوم القيامة كما ورد في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم- : ( يقال للقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر تقرؤها ) رواه الترمذي بسندٍ صحيح .
وكذلك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- في جمعٍ نحتاج إلى تذكُّره في هذه الأيام يقول : ( الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة يقول القرآن أسهرته في الليالي ويقول الصيام أظمأته في الهواجر ) فكيف بنا لا نجمع بين هذين الخيرين !نريد أن نبقى مع القرآن في رمضان على هذا النحو ، وكذلك بعد رمضان أن نديم التلاوة وأن نجتهد في الفهم والتدبُّر ومعرفة معاني الآيات وتفسيرها وأن نحرص غاية الحرص على العمل بموجب كتاب الله عز وجل .
إنه لا ينبغي أن يكون بين حياتنا وبين هذا الكتاب الكريم تصادمٌ ، ولا معارضةٌ ، ولا مخالفة كما هو حال كثيرٍ من المسلمين - إلاَّ مَن رحم الله - في كل الأمور نجد أن القرآن ينادي وأن الآيــات تتلى { قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم } { وقرن في بيوتكن ولا تبرَّجن تبرُّج الجاهلية الأولى } فأين هذا في واقع الحياة ؟ انظر إلى الأوامر القرآنية ، انظر إلى التوجيهات الربَّانية ، وانظر إلى واقع الأمة الإسلامية . فكلما كان البون شاسعاً فكلما كان الاختلاف كبيراً كلما كانت البلايا والرزايا والمشكلات والمعضلات وكلما كان الأمر هيناً ، وكلما كان التقارب عظيماً والانطباق كاملاً وتاماً كلما تحققت أسباب النصر وتنـزَّل الخير من عند الله عز وجـل .
ولنحذر مما قال الله - عز وجل - على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم- { وقال الرسول يا ربِ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } هجران القرآن خرابٌ للقلوب ، والنبي – صلى الله عليه وسلم- قد قال : ( إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب ) ، كبيت الخرابة لا نفع فيها، ولا نظر إليها، ولا اهتمام بها ولا فائدة منها مطلقاً ، ولذلك يخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم- عن حال ما يقع بعده كما في حديث عمران ابن حصين – رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( مَن قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيأتي أقوامٌ يقرءون القرآن يسألون به الناس ) . رواه الترمذي وقال حديث حسن،
فلم يعد القرآن مبتغاهم به معرفة أمر الله وطلب رضوان الله والحرص على ثواب الله ، بل صرفوا ذلك إلى أشياء أخرى وإلى تبريرات ، وإلى جعل القرآن مطـيَّةً للأهواء ومطـيَّةً لما يُراد من الأحكام ذلك كل هو أعظم انحرافٍ عن كتاب الله عز وجل .
فالله الله في كتاب الله ، والله الله في القرآن الله الله في هذه الأيام المباركة والليالي العاطرة أن نحيي قلوبنا بالقرآن أن نديم التلاوة ، وأن نحرص على التدبُّر وأن نجتهد في العمل ، وأن نُشيع أخلاق القرآن فيما بيننا وأن نتواصى ونتعاهد أن نجدِّدَّ سيرة أسلافنا، وأن نحكي ما كان عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - فنقدِّم مَن قُـدِّم بالقرآن ونُجلَّ مَن أُجلَّ بالقرآن ونجعل لأهل القرآن منـزلتهم ونسعى إلى أن نحقق حياة القرآن ، وحكم القرآن ، وأخلاق القرآن ، وآداب القرآن في نفوسنا وفي أسرنا أولاً ، ثم بعد ذلك أن نُشيع ذلك فيمن حولنا من جيراننا وأقربائنا وسائر مجتمعنا